close

Inside Llewyn Davis -Joel Coen (4/13)

بأضواء خافتة وعلى مسرح صغير في أحد النوادي الصغيرة بقرية “قرينويتش”، يبدأ لوين ديفيس في غناء الأغنية التقليدية “.Hang Me, Oh Hang Me” لتكن آخر أغنية له في تلك الليلة، بعد ذلك يقوم الجمهور بالتصفيق له وبحرارة لتنتقل الكامير إلى وجه لوين ديفيس لنجد أن التعابير على وجهه لا توحي بالكثير من الرضى، يقول بعدها مخاطبا الجمهور: “ربما سمعتم هذه من قبل، إذا كانت ليست جديدة البتة ولا يُمل منها أبدا فهي بالتأكيد أغنية شعبية”. بهذه الطريقة وهذا المشهد يفتتح الكوينز فيلمهم السادس عشر لنتيقن ونعرف من البداية بأن هذا الفيلم سيكون مختلفا عمّا عهدناه وعرفناه من الكوينز، فنوع الجريمة الذي طغى على معظم افلامهم السابقة لم يكن من ضمن الـ”جينر” لـ”انسايد لوين ديفيس”.

قصة الفيلم تدور حول أسبوع واحد من حياة مغني شعبي صغير في عام 1961 بينما هو يتنقل في حانات ومقاهي قرية قرينويتش بضواحي نيويورك وكيف يحاول التغلب على العقبات التي تواجهه باستمرار طوال هذا الإسبوع ومحاولته لشق طريقه إلى عالم الموسيقى وبالتحديد “Folk Music” أو “الموسيقى الشعبية”، ولكن المشكلة تقع في أن هذا النوع من الموسيقى لم يكن ذا صيت ولم يكن ذا انتشار واسع أو جمهور في تلك الفترة، وبالتالي كان هذا من اكبر العقبات التي واجهها لوين ديفيس، ولكن الشيء الذي لم يظهره الفيلم وذلك لعدم توافقه مع الفترة الزمنية هو أن الموسيقى الشعبية قد تركت بصماتها على الموسيقى الحديثة كالجاز والروك بشكل واضح ومؤثر، وبالتالي استعادت في منتصف ستينيات القرن الماضي حيويتها على يد بعض نجوم البوب الأمريكي أمثال بوب ديلان وجون بيز وودي غوتري وغيرهم.

ربما اكثر ما يميز ويعطي الفيلم نكهته الخاصة هو شخصيته الرئيسية وطريقة تقديمها بشكل يدعو للإعجاب بها وبالرغم من انها ربما لا تحمل كاريزما أو مميزات تجذب المشاهد إلا أن أسلوب تقديم النص والغموض الذي يدور حوله أحيانا أضاف الكثير لهذه الشخصية. نستطيع أن نرى ذلك في عدة مشاهد من الفيلم، ففي المشهد الذي كان جالس وهو يشاهد أداء صديق صديقته على ذلك المسرح الصغير، وما إنْ ينتهي من أغنيته حتى يبدأ في دعوة صديقيه جيم و جين ليغنوا معه أحد أجمل وأروع أغاني الفيلم وهي نسخة من الأغنية الشعبية “.Five Hundred Miles”، وبينما هم يغنون يبدأ الجمهور القليل في الغناء معهم وفي هذه اللحظات بالتحديد نرى تلك النظرات على وجه لوين والتي تحمل الكثير، المكان الذي كان يعتقد انه جزءاً منه وينتمي له أصبح الآن غريب عليه ولا يشعر بالإنتماء وفي نفس الوقت يصعب تفسير ذلك بالنسبة له ولا يجد السبب في ذلك، لكن ربما لو تعمقنا قليلا في شخصيته والحالة التي يمر بها الآن فسوف نجد بأنه لا يزال في حالة حزن وحداد على صديقه ورفيقه السابق في الغناء “مايك” والذي انتحر بالقفز من جسر، تلك الخسارة أثرت بشكل كبير في لوين، تلك الخسارة لم تفقده صديق فحسب بل أفقدته أيضا رفيق في الغناء والآن صار كما يسمى في عالم الموسيقى “a solo act” أي يغني ويعزف لوحده، مغني لوحده ومع صندوق تسجيلات غير مباعة، وبالرغم من ذلك كله، لوين لا يزال يشعر بأن لديه الكثير ليثبته ويقدمه. يظهر هذا الشيء بوضوح عندما يزور أخته ويدور بينهما عدة حوارات تبين لنا منها عدة خصال وأشياء لم نكن نعرفها من قبل عن لوين، ولكن الأهم من ذلك هو عندما أخبرنا رفضه التام بالرجوع إلى مهماته وأداءاته السابقة في سفن الرحلات التجارية البحرية، ولكن هذا الشيء لم يمنعه من ملاحقة فرصة متاحة عندما قام بتلك الرحلة المنحوسة إلى تشيكاغو. يبدأ أحد أجمل وأروع مشاهد الفيلم عندما يصل إلى أحد المسارح الصغيرة في تشيكاغو ويقابل المنتج للموسيقى الشعبية فيه، يبدأ لوين في هذا المشهد في تقديم نفسه بطريقه مليئة بالأسىء ويتضح بذلك عندما يخبره بأنه كان عابرا لـ تشيكاغو وأنه فقط مهتم بالغناء هنا ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما، يأتي بعد ذلك الرد من “بد غروسمان” بعبارة “.’Play me something from ‘Inside Llewyn Davis” ويتضح ذلك قصده بالمعنين للعبارة المعنى المجازي والمعنى الحرفي له، هنا بالتحديد يبدأ المشهد الأجمل عندما يقوم لوين بالبدأ في الغناء وينفذ بالتحديد ما طلبه غروسمان، فالمعنى الحرفي للعبارة ظهر جليّاً وبكل وضوح في أداء لوين لتلك الأغنية وكأنه ينقل كل مشاعره تجاه نفسه ومن حوله وتجاه العالم كله من خلال تلك الأغنية، يتضح أثر هذا الأداء من لوين على تعابير وجه غروسمان بكل وضوح.

وعلى الرغم من أن هذا الفيلم كان غريباً من وعلى الكوينز بجميع ما قدمه وحمله إلا أنهما لم يخلعا سترتهما بالكامل ويتضح ذلك في نهاية الفيلم المليئة بالغموض، فإن كان هناك شيئاً عرفناه وتعودناه منهما فهو بكل تأكيد النهايات الغير تقليدية ونستطيع الاستشهاد على ذلك بنهايات بعض أفلامهم السابقة  ‘The Man Who Wasn’t There’ و ‘Burn After Reading’ و ‘Barton Fink’ وربما الأكثر شهرة ‘No Country for Old Men’. كل تلك النهايات جعلت الجمهور يتناقشون ويتناظرون بينهما على ما الذي حدث وما المقصد وكيف كان الخ، “انسايد لوين ديفيس” لم يختلف كثيرا، فالنهاية لم تكن بـ “تويست” أو شيء من هذا القبيل ولكنها كانت مفاجئة على نحو محيّر او مشوش تجعل خلفها عدة تفسيرات ممكنة. قرأت عدة تفسيرات ممكنة للنهاية ومعقولة في نفس الوقت وقرأت أيضا عدة تفسيرات مبالغ فيها ومضحكة أحيانا، من ضمن تلك التفسيرات هي أن لوين يعيش في حلقة مفرغة وأنه يعيش هذا الاسبوع مراراً وتكراراً وأنه خلال ذلك يتقدم ويتعلم بشكل بطيء ويتضح ذلك عندما لم يدع القطة تخرج من الشقة في المشهد الأخير بعكس ذلك في المشاهد الأولى من الفيلم وبالتالي يكون هذا التفسير أقرب إلى مفهوم وهو أنه عرض أو تعبير عن كيفية خوض غمار الحياة بالنسبة للوين ويكون أيضا أبعد عن مفهوم الخيال العلمي. وفي الحقيقة أجد أن هذا التفسير بعيد جدا وصعب تقبله أو حتى توقعه من الكوينز. أحد التفسيرات المعقولة بالنسبة لي هو ذلك القول الذي يقول بأن ليس هناك غموض في النهاية وأن مشهد النهاية لم يكن سوى إعادة لمشهد البداية بالكامل مع زيادة مشاهد قليلة وبالتالي يصبح مشهد البداية ليس سوى “فلاش باك”. ولكن المشكلة في هذا القول هي لقطة واحدة ظهرت في مشهد النهاية لم تكن متطابقة مع مشهد البداية وهذه اللقطة هي عندما يقوم لوين بمنع القطة من الخروج من الشقة بعكس مشهد البداية والذي لم يستطع فيه لوين بجعل القطة داخل الشقة، وبالتالي من الممكن القول بأن “نسخة” مشهد البداية كان تعبير مجازي عن حالة ووضع لوين، فهو حاليا يمر بتقلبات عدة، هو الآن فنان يعاني، لا يتنازل عن معنى وما تمثله الموسيقى بالنسبة له، وإن لم يتمكن من تقديم الموسيقى كما يحلوا له وعلى طريقته وإلا فلن يقدمها البتة. ولكن “نسخة” مشهد النهاية حيث لم يدع القطة تخرج من الشقة نجده يفرغ ما في قلبه ويغني أغنيته الأخيرة في تلك الليلة بمشاعر وأحاسيس دافئة وعميقة، وفي هذه المرة أيضا نجد بأن صديقته جين تنصحه بالذهاب والغناء في ذلك العرض، وبالتالي نجد في نسخة مشهد النهاية أن معظم الأمور تتجه لمصلحة لوين وأنه في هذه المرة هناك بصيص أمل لإنهاء تلك المعاناة، وبالرغم من أن كلا المشهدين متطابقين (باستثناء لقطة القطة) إلا أن طريقة التقديم في المشهد الأخير جعلت هناك اختلاف بسيط يجعله وكأنه مليء بالأمل والإيجابية بعكس المشهد الأول والذي تظهر طريقة التقديم فيه مليئة بالسوداوية والسلبية، وهنا بالضبط تظهر عبقرية نص الكوينز في هذا الفيلم برأيي.

إن كان هناك ما يضيف الكثير لشخصية لوين ديفيس ويصل تأثيرها بهذا الشكل على المشاهدين وهو ما حصل بكل تأكيد فهو بدون شك سيذهب الفضل الأكبر إلى الأداء المميز من الشاب أوسكار إسحاق، في هذا الفيلم لم يكن ممثل فحسب بل كان ممثل ومغني أيضا، وتميزه لم يقتصر فقط على تمثيله أيضا بل على غنائه واستطعنا أن نرى ذلك في عدة مشاهد فمشهده مع “بد غروسمان” وغنائه كان حقيقة مشهدا بأداء مميز يعجز عن الكثير نظرا لأنه يقوم بمهمتين وهي التمثيل والغناء أيضا. وإذا رأينا أيضا سينماتوغرافر مبدع بحجم الفرنسي برونو ديلبونيل والمرشح لأربع جوائز أوسكار في قائمة العاملين في الفيلم فبالتأكيد سنطمئن من ناحية جمالية الصورة وسحرها، فقد استطاع أن يصبغ الشاشة بألوان متناسقة وجذابة وخصوصا مشاهد رحلة تشيكاغو وتلك المشاهد التي تكون في الشارع أو في القطار والتركيز على كثير من الأجزاء منها مع عدم التهاون في مواكبة فترة الستينات وإحياء جميع تفاصيلها.

شاركنا تصويتك

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى

إضافة إلى المجموعات

لا يوجد مجموعات

ستجد هنا جميع المجموعات التي قمت بإنشائها من قبل.